ثالثاً-بيع أسهم الشركات وعلاقته بمسألة "مد عجوة ودرهم"
عرفنا فيما تقدم أن موجودات الشركات المساهمة لا تخلو من كونها خليطاً من أنواعٍ متعددةٍ من الأموال ، ولكن أغلب هذه الموجودات في الشركات حديثة التأسيس تكون من النقود ، فعلى قول من يرى أن للأسهم حكم العروض مطلقاً فلا إشكال في تداول أسهم هذه الشركات بقيمتها السوقية بغض النظر عن موجوداتها ، لأن الحكم للأعيان مطلقاً ، اكتفاءً بمبدأ الخلطة ، فلا يشترط للبيع تقابض ولا تماثل ولو كانت النقود أو الديون هي الغالبة. أما على رأي من يرى أن حكم بيع الأسهم له حكم بيع موجوداتها فإنه ينظر إلى الأغلب من تلك الموجودات ، فيعطي الأسهم حكم الأغلب فإن كانت الأعيان هي الغالبة ، فله حكم بيع الأعيان ، وإن كانت النقود هي الغالبة ، فله حكم المصارفة ، وإن كانت الديون هي الغالبة فله حكم بيع الديون . وإلى هذا القول ذهب مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة (28). ويجري على هذا القول – الثاني – الخلاف بين الفقهاء المتقدمين فيما إذا بيع ربوي بجنسه ومعـهما أو مع أحدهما من غير جنسهما ، وتعرف بمسألة (( مد عجوة ودرهم )) (29). وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال : 1. المنع مطلقاً . 2. الجواز إن كان المفرد أكثر من الذي معه غيره ، أو كان مع كل واحد منهما من غير جنسه . 3. الجواز إن كان غير الربوي تابعاً . وقبل الشروع في ذكر الخلاف وما يترتب عليه وحجج كل فريق ، يحسن أولاً تحرير محل النزاع في المسألة . فثمت مسائل اتفقت هذه الأقوال عليها : 1- إن باع ما فيه الربا بغير جنسه ، ومعه من جنس ما بيع به ، إلا أنه – أي الربوي – تابع غير مقصود ، فإن كان يسيراً ، فالبيع جائز ، قال ابن قدامة : (( لا أعلم فيه خلافاً )) (30). ووجود الربوي في هذا البيع كعدمه . وذلك مثل أن يشتري داراً مموهاً سقفها بالذهب ، بذهب ، أو بدار سقفها مموه بالذهب . وتتفاوت المذاهب في تحديد القدر الذي يتسامح فيه بوجود الربوي في الصفقه ، فنجد المذهب الشافعي أشد هذه المذاهب ثم المالكي والحنبلي ثم الحنفي . فالشافعية يضبطون ذلك بأن يكون الربوي يسيراً تابعاً بالإضافة إلى المقصود ، كبيع حنطة بشعير ، وفيها أوفي أحدهما حبات من الآخر يسيرة (31). والحنابلة يحددون ذلك بأن يكون الربوي التابع يسيراً غير مقصود ، كالملح فيما يعمل فيه ، أو كثيراً لمصلحة المقصود كالماء في خل التمر والزبيب (32). بينما يرى المالكية جواز بيع المحلى إذا بيع بنقد من غير جنسه بثلاثة شروط : الأول : أن تكون الحلية مباحة ، كتحلية السيف والخاتم ونحوهما ، فإن كانت محرمة كالثياب فلاتجوز. الثاني : أن تكون الحلية مسمرة . الثالث : أن يباع معجلاً من الجانبين ، لأن العقد اجتمع فيه بيع وصرف . فإن بيع بجنسه فيشترط إضافة إلى ما تقدم شرط رابع وهو أن تكون الحيلة بقدر الثلث فأقل . ومع هذه الشروط فالمالكية يرون أن العقد مشتمل على المصارفة ولذا اشترطوا التقابض . وفيما سوى ذلك لا يجوز بيع ما فيه فضة أو ذهب بنوع ما فيه منهما إلا أن يكون ما فيه من الفضة والذهب إذا نزع لم يجتمع منه شيء له بال فلا بأس حينئذٍ ببيعه بنوع ما فيه نقداً أو نسأً ، لأن وجود النقد كعدمه (33). ويقيد الحنفية ذلك بما إذا كان النقد يسيراً كالتمويه اليسير الذي لا يحصل منه شيء يدخل في الميزان بالعرض على النار ، فوجود الربوي في هذه الحالة لا يؤثر (34). ويرى الإمام الأوزاعي : إن كانت الحلية تبعاً وكان الفضل في الفضل جاز بيعه بنوعه نقداً وتأخيراً(35). 2- لا أعلم خلافاً بين العلماء أنه إذا بيع ربوي بجنسه ومع أحدهما من غير جنسه ، وكان كل منهما – أي الربوي وغير الربوي – مقصوداً في العقد ، فيجب التقابض بين العوضين . فحتى الأحناف الذين يرون صحة البيع لا ينازعون في أن العقد يشتمل على الصرف فيجب فيه التقابض . قال في الهداية : ((إن باع سيفاً محلى بمائة درهم ، وحليته خمسون فدفع من الثمن خمسين جاز البيع وكان المقبوض حصة الفضة .. فإن لم يتقابضا حتى افترقا بطل العقد في الحلية)) قال في الشرح: ((لأنه صرف فيها)) (36). 3- إذا بيع النقد من غير جنسه ومع أحدهما أو كليهما متاع ، كما لو بيع ذهب بفضة وثوب ، أو ريالات بدولارات وكتاب ، وحصل التقابض في المجلس ، صح العقد عند الجمهور مطلقاً مجازفة كان أو متفاضلاً أو متساوياً لاختلاف الجنسين ، ويصح عند المالكية أيضاً بشروطهم السابقة (37). فإذا بيع الربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما ، وكان كل من الربويين مقصوداً في العقد ، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال : القول الأول : المنع مطلقاً . وهذا مذهـب الجمهـور مـن المالكيـة(38)، والشافعيـة(39)، والحنابلـة في الروايـة المشهورة (40)والظاهرية. (41). استدل أصحاب هذا القول بما يلي : الدليل الأول : ما روى فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز ، وهي من المغانم تباع ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزناً بوزن))(42). ووجه الدلالة منه : (( أنه أمر بنزع الخرز وإفراد الذهب ليمكن بيعه ، ولو جاز بيعه مع الخرز لما احتاج إلى وزنه ، ثم قال : ((الذهب بالذهب وزناً بوزن)) فنبه بذلك إلى أن علة إفراده بالبيع أن يتحقق فيه الوزن بالوزن)) (43). نوقش هذا الاستدلال من جهتين : الأولى : من حيث ثبوته : فإن الحديث مضطرب ، فقد روي بألفاظٍ مختلفة (44)، ، ففي بعض الروايات أنه اشترى قلادة ((فيها خرز وذهب))(45). وفي بعضها ((ذهب وجوهر)) (46). ، وفي بعض الروايات أنها بيعت ((باثني عشر ديناراً)) (47)، وفي بعضها (( بتسعة دنانير أو بسبعة دنانير)) (48). أجيب : (( بأن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفاً بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه وهو النهي عن بيع ما لم يفصل ، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب ، وحينئذٍ فينبغي الترجيح بين رواتها ، وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم ، وتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة )) (49). الثانية : من حيث دلالته : فإن الحديث لا دلالة فيه على المقصود لأمرين : الأول : أنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم رده لأن ذهب القلادة أكثر من ذهب الثمن بدليل ما جاء في بعض روايات مسلم : ((أنه اشتراها باثني عشر ديناراً ، قال : ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً))(50). الثاني : ويحتمل أنه رده لأن هذه القلادة لا يعلم مقدار ذهبها أهو مثل وزن جميع الثمن أو أقل من ذلك أو أكثر ، ومن شرط صحة البيع التحقق من أن الثمن أكثر من الذهب (51). أجيب : بأن ما ذكر من احتمالات غير وارد لثلاثة أمور : 1. (( أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الجواب من غير سـؤال فـدل على استـواءالحالين)) (52). 2. أنه جاء في رواية أبي داود أن المشتري قال : (( إنما أردت الحجارة )) فدل على أن الذهب يسير دخل على وجه التبع (53). 3. أن فضالة بن عبيد رضي الله عنه وهو صاحب القصة قد حمل النهي على العموم ، فقد سئل عن شراء قلادة فيها ذهب وورق وجوهر ، فقال : انزع ذهبها فاجعله في كفة ، واجعل ذهبك في كفة ، ثم لا تأخذه إلا مثلاً بمثل ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يأخذن إلا مثلاً بمثل))(54). الدليل الثاني : عموم الأحاديث في النهي عن بيع الربوي بجنسه إلا مثلاً بمثل ، مثل قوله عليه الصلاة والسلام : (( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض )) ووجه الدلالة : أن وجود شيء مع الربوي يمنع من تحقق المساواة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصح البيع إلا بفصل الربوي وحده . ويناقش : بأن شرط المساواة متحقق فيما إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره ، بأن يجعل الربوي المخلوط بما يقابله من المفرد ، وما فضل من المفرد بالخِلط الذي مع الربوي . الدليل الثالث : أن العقد إذا جمع عوضين مختلفي القيمة ، كان الثمن مقسطاً على قيمتهما على الشيوع ، لا على أعدادهما . يوضح ذلك أصلان : أحدهما : أن من اشترى شقصاً (55).من دارٍ وعبداً بألف فاستحق الشقص بالشفعة كان مأخوذاً بحصته من الثمن اعتباراً بقيمته وقيمة العبد ولا يكون مأخوذاً بنصف الثمن . الثاني : أن من اشترى عبداً وثوباً بألف ثم استحق الثوب أو تلف كان العبد مأخوذاً بحصته من الألف ، ولا يكون مأخوذاً بنصف الألف . وبتطبيق ذلك على العقد هنا يلزم الفساد لأن العقد يتردد بين أمرين : إما العلم بالتفاضل أو الجهل بالتماثل ، وكلاهما مفسد للعقد ، لأنه يجوز أن تكون قيمة المد الذي مع الدرهم أقل أو أكثر أو يكون درهماً لا أقل ولا أكثر ، فإن كان أقل أو أكثر كان التفاضل معلوماً ، وإن كان درهماً كان التماثل مجهولاً ، لأن التقويم ظن وتخمين والجهل بالتماثل – في باب الربا –كالعلم بالتفاضل ، ولذلك لم يجز بيع صبرة بصبرة بالظن والخرصِ (56). نوقش هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه : الأول : أن انقسام الثمن بالقيمة لغير حاجة لا دليل عليه (57). الثاني : (( أن مطلق المقابلة تحتمل مقابلة الجنس بالجنس على سبيل الشيوع من حيث القيمة كما قلتم ، وتحتمل مقابلة الجنس بخلاف الجنس .. إلا أنا لو حملناه على الأول لفسد العقد ، ولو حملناه على الثاني لصح ، فالحمل على ما فيه الصحة أولى )) (58). الثالث : وعلى فرض التسليم بأن التماثل مبني على الظن ، فإن بيع الربوي بالربوي على سبيل التحري والخرص جائز عند الحاجة ، إذا تعذر الكيل أو الوزن ، كما يقول ذلك مالك والشافعي وأحمد في بيع العرايا بخرصها (59). الدليل الرابع : أن هذا العقد ممنوع سداً لذريعة الربا ، فإن اتخاذ ذلك حيلة على الربا الصريح وارد ، كبيع مائة درهم في كيس بمائتين جعلاً للمائة في مقابلة الكيس ، وقد لا يساوي درهماً (60). القول الثاني : الجواز إذا كان ما مع الربوي تابعاً . فيجوز بيع الفضة التي لم يقصد غشها بالخالصة مثلاً بمثل . وهو رواية في مذهب الإمام أحمد (61). ، اختارها شيخ الإسلام ابن تيميه في أحد قوليه (62).استدل أصحاب هذا القول : بقولـه عليه الصلاة والسلام: ((من ابتاع عبداً له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع )). ووجه الدلالة منه : أن الحديث دل على جواز بيع العبد بماله إذا كان قصد المشتري للعبد لا للمال ، فيجوز البيع سواء كان المال معلوماً أو مجهولاً ، من جنس الثمن أو من غيره ، عيناً كان أو ديناً ، وسواء كان مثل الثمن أو أقل أو أكثر(63). ويقاس عليه إذا كان الذي مع الربوي تابعاً غير مقصود (64). ويناقش : بأن الربوي في مسألة مد عجوة ودرهم مقصود بالعقد ، أما المال الذي مع العبد فالمقتضي لجواز بيعه بثمن من جنسه كونه تابعاً غير مقصود بالأصالة ، ولا يصح قياس إحدى المسألتين على الأخرى لأمرين: الأول : أن الربوي إذا كان تابعاً غير مقصود لا يتصور كون العقد حيلة على الربا ، بخلاف ما إذا كان غير الربوي هو التابع . الثاني : أنه إذا بيع الربوي بما يساويه من جنسه ومع أحدهما جنس آخر غير مقصود ، فإن ذلك يؤدي إلى التفاضل ، لأن غير الربوي له قسط ولو يسيراً من قيمة العوض المفرد . القول الثالث : جواز بيع الربوي بجنسه ومعه من غير جنسه بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره ، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسهما . وهذا مذهب الأحناف (65).، ورواية عن الإمام أحمد ، اختارها شيخ الإسلام ابن تيميه في أشهر قوليه (66)، وقيد الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية الجواز بقيدٍ آخر وهو ألا يكون القصد من هذه المعاملة التحايل على الربا ، وذلك بأن يكون لما مع الربوي قيمة حقيقية (67). وجوز الشافعية في وجه ضعيف عندهم : إذا باع مداً ودرهماً بمد ودرهم ، والدرهمان من ضرب واحد ، والمدان من شجرة واحدة فإنه يصح(68). فعلى هذا القول : من باع سيفاً محلى بثمن أكثر من الحلية ، وكان الثمن من جنس الحلية جاز وذلك لمقابلة الحلية بمثلها ذهباً كانت أم فضة ، والزيادة بالنصل والحمائل والجفن (69). فإن تساوى المفرد مع المضموم إليه غيره ، أو كان المفرد أقل بطل البيع ، لتحقق التفاضل ، وكذا إذا لم يدر الحال لاحتمال المفاضلة أو الربا . قال في الهداية : (( ولو تبايعا فضة بفضة أو ذهباً بذهب ، وأحدهما أقل ، ومع أقلهما شيء آخر تبلغ قيمته باقي الفضة جاز البيع من غير كراهية ، وإن لم تبلغ فمع الكراهة ، وإن لم يكن له قيمة كالتراب لا يجوز البيع )) (70). فإن تساوى المفرد مع المضموم إليه غيره ، أو كان المفرد أقل بطل البيع ، لتحقق التفاضل ، وكذا إذا لم يدر الحال لاحتمال المفاضلة أو الربا . قال في الهداية : ((ولو تبايعا فضة بفضة أو ذهباً بذهب ، وأحدهما أقل ، ومع أقلهما شيء آخر تبلغ قيمته باقي الفضة جاز البيع من غير كراهية ، وإن لم تبلغ فمع الكراهة ، وإن لم يكن له قيمة كالتراب لا يجوز البيع)) (71). نوقش هذا الاستدلال من وجهين : الأول : أن الواجب حمل العقد على ما يقتضيه من صحة وفساد ، وليس تصحيح العقد ، ولو كان ما قالوه أصلاً معتبراً لكان بيع مد تمر بمدين جائزاً ليكون تمر كل واحد منهما بنوى لآخر (72). الثاني : أن هذا منتقض (( بمن باع سلعة إلى أجل ثم اشتراها نقداً بأقل من الثمن الأول فإنه لا يجوز عند الأحناف مع إمكان حمله على الصحة ، وهما عقدان يجوز كل واحد منهما على الإفراد ، فجعلوا العقد الواحد هاهنا عقدين ليحملوه على الصحة فكان هذا إفساداً لقولهم))(73). الدليل الثاني : أن الربا إنما حرم لما فيه من ظلم يضر المعطي ، وقد يكون في هذه المعاوضة مصلحة للعاقدين هما محتاجان إليها ، كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة ، والمنع من ذلك مضرة عليهما ، والشارع لا ينهى عن المصالح الراجحة ، ويوجب المضرة المرجوحة ، كما قد عرف ذلك من أصول الشرع (74). الترجيح : باستعراض الأقوال المتقدمة وأدلتها نجد أن الفريق الثالث يستند إلى البراءة الأصلية بينما استدل الفريقان الأول والثاني على المنع بأدلة لا تخلو من مناقشة : فحديث فضالة بن عبيد – وهو عمدة المانعين – لا يسلم الاستدلال به للاحتمالات الواردة عليه ، وهي احتمالات قوية ، والقاعدة أن الدليل إذا طرأ عليه الاحتمال ، وكان الاحتمال قوياً ، بطل به الاستدلال . وأجوبة الفريق الأول عن هذه الاحتمالات غير وجيهة لأن الثابت في صحيح مسلم أن الذهب الذي في القلادة أكثر من الثمن . وأما الدليل العقلي فقد أجيب عنه . ويبقى كون العقد ذريعة إلى الربا ، وهو دليل متوجه وقوي ، لكن ينبغي حمله على ما إذا تضمن العقد تحايلاً على الربا ، فيحرم لذلك ، أما إذا لم يكن حيلة للربا بأن كان ما مع الربوي مقصوداً فعلاً للعاقد فلا يظهر المنع ، لا سيما وأن هذه المعاملة قد يحتاج إليها العاقدان ، ولا يتمكنان من إجراء العقد على سبيل التفضيل بأن يقول : بعتك مداً بمد ، ودرهماً بمد ، وهي الصورة التي يجيزها الفريق الأول(75). وأقرب شاهد على ذلك العقد الذي نحن بصدده ، وهو بيع الأسهم التي موجوداتها مختلطة ، فمن الصعوبة بمكان أن يلزم العاقدان بالتفصيل على النحو السابق . ولذلك فإن الذي يترجح هو جواز هذه المعاملة إذا لم تكن حيلة على الربا وكان الربوي المخلوط أقل من الربوي المفرد ، وذلك بأن يكون ما مع الربوي له قيمة حقيقية ، ولم يؤت به للتحليل ، والله أعلم . وتطبيقاً للأحكام السابقة : فعلى فرض صحة القول الثاني وهو أن بيع الأسهم له حكم بيع موجوداتها : 1. فإن بيع الأسهم إذا كانت موجوداتها مختلطة من نقود وغيرها وكانت تلك النقود مقصودة لذاتها فالبيع لا يصح عند الجمهور إلا إذابيعت بعملة غير عملة الأسهم فيصح عند الجميع سوى المالكية . وأما على القول الراجح فيصح البيع بنفس العملة بشرطين : الأول : أن يكون الثمن الذي يشترى به السهم أكثر من قيمة موجوداته من النقود والديون . الثاني : أن يتقابضا العوضين - شهادة الأسهم وثمنها -قبل التفرق . 2- فإن كانت موجودات الأسهم من النقود والديون تابعة غير مقصودة فيصح البيع مطلقاً عند الجميع من غير اشتراط التقابض أو زيادة الثمن على قيمة تلك النقود والديون ، لأن هذه النقود تابعة فلا حكم لها والقاعدة عند أهل العلم أن " التابع تابع " و " يثبت تبعاً ما لايثبت استقلالاً". والذي يحدد كون النقود والديون تابعة أم لا ، هو طبيعة نشاط الشركة ، فإذا كانت الشركة تستثمر أموالها في بيوع آجلة فالديون أصيلة فيها حتى ولو كانت نسبتها – عند بيع السهم -من الموجودات قليلة. وإذا كانت الشركة مصرفية فالنقود أصيلة فيها ولو كانت نسبتها من الموجودات قليلة . وإذا كانت شركة ذات نشاط زراعي أو تجاري أو عقاري أو صناعي أو أي استثمارات حقيقية أي غير مالية ، فالنقود والديون تعتبر تابعة وليست مقصودة ، فيصح بيع السهم بمثل قيمته الحقيقية أو بأقل أو بأكثر ، وبقبض وبدون قبض . وعلى هذا فليست العبرة في جريان أحكام الصرف على المعاملة بغلبة نسبة النقود إلى موجودات الشركة – كما قال به أصحاب القول الثاني – وذلك لعدة أمور: 1. أن هذا القول إذ لم يقل به أحد من أهل العلم المتقدمين – فيما أعلم – . 2. فضلاً عن أن هذا الأمر لا ينضبط في تداول الأسهم إذ تتغير المراكز المالية للشركات بصورة مستمرة . 3. ولأن هذا القول نظر إلى الموجودات المحسوسة للشركة ولم يلتفت إلى العوامل والحقوق الأخرى غير المحسوسة والتي لا تقل أهمية في التأثير على القيمة السوقية للسهم عن الموجودات المحسوسة .